في يوم من أيام الصيف الجميلة, حيث كانت الشمس تظهر في كبد السماء كالملك على عرشه, تلقي بخيوطها الذهبية على الأرض؛ لترصع بها جبينها وتزين بها جيدها, فتبدو كأنها العروس ليلة زفافها, وحيث كانت الأنهار تغني نشيدها فينساب خريرًا عذبًا تطرب له القلوب وتشنف له الآذان, وكانت الأطيار تعزف نشيد الحرية فينطلق زغاريد حب وأمل وتفاؤل..
كان يلوح للناظر هناك في عرض الأفق خيالُ بيت بعيد, اقتربت منه العين لترمقه من كَثَب فإذا هو منزل جميل في تواضعه, متواضع في جماله, وأصغت إليه الأذن لتسمع صوت صبي تلاعبه أمه وتغني له في حب وعطف وحنان, فيضحك لتضحك الدنيا في عينها, وإذا بكى فالكون كله يبكي معه فتنسكب عبراتها..
وفجأةً.. إذا بصوت يرتفع ليشق صمت الكون, ويخترق سمع الزمان, ليدوي في الآفاق, ويملأ جنبات الفضاء, إنه صوت الأم الحنون علا واشتد لما أغضبها ولدها الذي تحب, وفلذة كبدها التي تعشق, وإذا بها لمَّا آسَفَها تفتح باب دارها ليخرج الولد طريدًا من حجرها..
خرج الصغير بجسمه النحيل تخط قدماه الصغيرتان على الأرض قصةَ حزنه وأسفه, انطلق المسكين يجوب شوارع المدينة غير مكترث لما حصل, فهو لا يعي سوءَ فعلته وظلمةَ شقوته, كيف وقد اتخذ قراره جازمًا أن لا يعود إلى بيت أمه وأن لا يرجع إليه بعد أن أفلت من قبضتها, وتحرر من أسرها..
حتى إذا دقت ساعة رحيل النهار وأخذ يلملم ضياءه المنثور, وأوشكت شمس النهار على الأفول فنهضت هي أيضًا لتسحب شعاعها الذهبي المنشور, وبدأ الليل يسدل ستاره الأسود الداكن شيئًا فشيئًا, أخذ الطفل يقلب عينيه الصغيرتين في المكان الذي لفه السواد وغطته الظلمة أو تكاد, ليصحو على حقيقة سافرة مفادها "أنْ لا مأوى له سوى بيت أمه".. أيقن ذلك وتشربت به أفكاره فتشبعت به جوانحه, لتحمل رجلاه النحيلتان ذلك الجسد الضئيل الذي أنهكه بُعْدُ يومٍ عن أمه وكأنه سنة..
بلغ بيت أمه فوجد الباب موصدًا دونه, رفع يده الصغيرة وأمسك حلقة الباب بيده ليقعقعها فاستحيا خجلاً من سوء صنيعته.. فما كان منه إلا أن توسد عتبة الباب وغطَّ في نوم عميق...
تحرك قلب الأم وتسارعت ضرباته لمّا رأت الليل قد أرخى سدوله, والظلامَ قد اشتدت حُلكتُه.. فدارت الدنيا في عينيها مختصرةً في رأسها العمر كله في لحظة..
يا ترى ماذا حلَّ بولدي؟
أين هو الساعة؟
ماذا أكل؟
كيف هو الآن؟
وتوالت التساؤلات.. فقامت مسرعةً وأخذت جلبابها وغطت رأسها لتنطلق بحثًا عن زينة الدنيا وفرحة العمر, هرولت مسرعةً نحو باب الدار، أخذت المقبض وأدارت الحلقة وفتحت الباب لتجد فلذةَ كبدها وقطعة قلبها مفترشًا الأرض متوسدًا العتبة وملتحفًا السماء غارقًا في نومه, فرحت به، بل طارت به فرحًا, أكبّت عليه، حملته، حضنته، سكبت عبرة الفرح على وجنتيه الصغيرتين وهي تمسح شعره, وهو يُجيل الطرف في وجهها المحبب إليه, ثم يدفن وجهه الصغير في صدرها الدافئ ولسان حاله يقول: "أمي أرجوك سامحيني", ولسان حالها يقول: "أي بني من يرعاك غيري؟ ومن يحنو عليك سواي؟"..
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَلّهُ أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومةً، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده))؛ [أخرجه البخاري: 5949].
والسؤال الآن: من لنا غير الله تعالى إذا ادلهمت الخطوب, واجتمعت الكروب, وأثقلت كواهلَنا الذنوب؟..
مهما ابتعدت - أيها العبد - فلن تجد غير الله جل جلاله يؤويك, ولن تجد سوى الله سبحانه يمنعك ويعطيك